أنا لا احد
انا وأحلامي ولِدنا في خيمةٍ
في غربةٍ منُذ سنينَ طويلةِ الامدْ .
زعزعَتْ اوصارَها النكباتُ
والليالي الدامساتُ
حتى آخر وتَدْ...
فيها جَدتي, أَوهنتْ الانتظارَ
بصبرِها وصمتِها,
حتى صاحَ الانتظارُ
غيظاً منها وشَرَدْ...
و أمي وردةٌ جوريةٌ
بين اشواكِ الذكرياتِ,
كزمرّدةٍ متفردةٍ في عُقْدْ...
عمّرتها خيمتي بنورِ الله
وشعشعتْ فيها فرحةُ الصِغارِ
من بينِ الدموعِ
ولداً تلِوَ الوَلَدْ ...
وزادَ النسْلُ رغمَ البؤسِ,
وإزدادَ الاملْ ,
في ان نكون يوماً ما
بعضُنا لبعضٍ سند ...
و كنتُ في حاضري
ماذا كنتُ ؟
لاجئاً مقيَّداً
رقماً في سجلِّ اللاجئين
مجرَّد تكملةِ عدد...
عشرون عاماً
مللتُ فيها الانتظارِ في طابور الاعاشاتِ.
كنت اقتات فيها أيامي و ساعاتي,
و أهجر فيها أحلامي وامالي,
التي كانت لا تحصى ولا تُعد...
عشرون عاماً
أفرُّ من ظلِّي ومن قدري
أُعربدُ في زقاقِ أسئلتي
كابتاً لشهوةِ الجواب او اللقاء
ولا أجدْ
عشرون عاماً
إنتميتُ للقهرِ والفقرِ بما فيه الكفاية..
فجاء يومٌ ظننتُ فيه أنني قادرٌ
على تغييرِ الحكايةِ, للأبد ..
فأنتمي الى حضارةٍ برّاقةٍ,
إلى بلدٍ آخرٍ
أبني فيه حاضراً افضلَ وغدْ...
فقررت ان أبتعد...
لم يكن من خيارٍ آخرَ في يديَّ.
فإحتمالي البُعدَ كان أهونَ عليَّ
من سَماعِ صُراخِ اطفالٍ جياعْ,
و رؤيةِ الدمِ المسفوحِ,
والقصاصِ و العقابِ
وذُليَّ المتراكم
كدوائرِ الدمعِ في مقلتيَّ...
عشرون عاماً تمزّقتْ من عُمري
بين هويتي وعيونهِم الزرقاء
على الحدودِ,حيث تنتحرُ اليمامة:
"من اين جئت ؟ ولِمَ أنت هنا؟"
....ويقذفني اليمُّ لأعتصرَ جواباً
من بين جَزْرٍ ومَدْ :
"أنا ابنُ ارضٍ غيّرَتْ معالمَ خريطتَها, السياسةُ.
ولِدْتُ هناك منبوذاً, وأبحث عن انتماء".
وترتسِمُ على وجوهِهم علاماتُ التعجبِ البلهاءِ
كأنني شبحٌ فرَّ من كتبٍ قديمة:
" لا ليس مكانُك بيننا,
فما بين خريطةِ منفاك.... والمقاييسِ الجديدةِ...
والحدودِ... والبلدْ , آســـــف !
فأنت لا أحدْ ."
وتُغلق مرّةً تِلو المرةِ
في وجهيَ الابوابْ..
يا سامعي ..
لماذا يُطرِبُكَ النُّواح ؟
والعصافيرُ التي إرتحلَتْ
تنشدُ الدفءَ بعيدا...
ما وفَّرتْها بارودةُ الصيدِ
فإقتُنصتْ من بينِ غيماتِ الشتاء.
يا راصدي..
أنهكَتني محاولاتُ السَفَرْ...
ما عُدْتُ أقوى على البقاءِ
في و كالة الغوث رقمً.
ما عدت اقوى على المضيِّ
في محاولات ترحالي والهرب...
الكلُّ يلفِظُني
وكأنني شيءٌ مُعاب
آهِ... يا ســـِـرَّ التعَبْ!! ....
ثلاثون عاماً انقضت..
ثلاثون عاماً محاصراً
في دائرةٍ عنيدةٍ كسدْ.
تسحقُني في كل يوم
وأدور فيهاحول نفسي
باحثنًا عن أمل تقدَدْ .
حتى نفذ الصبرُ مني و الجَلَدْ..
فكان ان فكّرتُ في تزويرِ أوراقي !...
و كان ان زوَّرتُ اوراقي!!
زوّرتُ اوراقي هذه المرة!!!
زوَّرتُ اوراقي , ومَضيت...
مع الريحِ بلا قيدٍ جريت..
لم أُكابِدْ مشقّاتِ الرحيلِ حينها
سافرتُ بطائرةٍ نفَّاثةٍ إلى ارضٍ بعيدةٍ
دون تعب او كبد..
وكان أن حطَّ بيَ الرِحال
هنا, في ارض جلاَّدي
حيث ترتقي الحريةُ
فيه الى صنعِ الجريمة
بلا قيدٍ ولا شرطْ..
في البدء ,
نادلاً في فندقِ الأعرابِ عملتُ!
أُقدِّمُ الخمرَ المحرّم,
وأسدُّ انفاسي تجنباً للقيء .
ولاحقاً, في حانةِ الغرباء
حسِبتُ نفسي سيداً
فشربتُها, وبكيت ...
أنا اين انا؟
وحديَ في ارضٍ غريبةٍ جدباء
قلَّ فيها من يوحِّدُ الفرْدَ الصَمدْ..
طالما سلَّمتُ فيها بأنني
خارجَ حدودِ خريطتي
خارجَ الزمانِ والمكانِ
و الاحلامِ والامالِ
كغصنِ غارٍ على مقبرةٍ رقدْ..
أربعون عاماً من الضياع
وامتي تتجرَّع من كأسِ علقمِها عزاء
أربعون عاماً
شاخت امتي فيها أربعين قرناً.
وخيمتي الشمطاء
ما زالت معلّقةً بين اخذٍ و ردْ .
أربعون عاماً,
لم يسعفني خلالها تحصيلي العلمي
ولا شهادةً ولاحسب لا نسب
في ايجاد فرصةٍ افضلَ للعيش
وللمال مدد..
فكان ان عملتُ في تجارةٍ سوداء
وجنيت مالاً لا يُحصى ولا يُعد!!
وتعقبت الرفاهية حتى الثمالة
وكنت لنفسي, فقط ,
لنفسي سَنَدْ ...
عشتُ حياتي هكذا,
في طولٍ وعرضْ
لم أعِرْ المفاهيمَ إنتباهاً
فإختلطتْ مبادئي بمعاييرِ التفاهةِ
وأصبحَ معشري, خصميَ ألألدْ...
تنصهرُ عروبتي في كلِّ يوم
وتذوبُ تحت اقدامِ حضارةِ الجُددْ...
وإنتمائي يضمحلُ,
فلا انا عربي, ولا انا غربي..
ولا انا من مِلَّةِ ذاك أو ذاك
نصفُ ميتٍ... نصفُ حيْ
ترمقني, فتحسَبُني مارداً
لكن ,بيني وبين نفسي دمعةٌ كئيبةٌ
تحفر سطراً وضيعاً
بين ماضٍ وغدْ...
يا صانعَ التاريخِ
لماذا إخترتَنا من بينِ آلافِ الأُمم ؟
حرَّقت فينا جراحَ الإنتماءِ للوطن
وذبحتَ فينا الأرض والعرض والعروبةَ والشيمْ
وأزهقنا فينا وبأيدينا , ما تبقَّى من مبادئٍ و قِيَم ..
يا صانع التاريخ
ما عُدْتُ أجرؤ على المضي إلى الامامِ
في الزحام والصخب....
.
خمسون عاماً مضت
واللجوءُ هويتي
وبائعُ الجرائدِ لا زال يلوِّحُ
ان القدسَ سوفَ تُصبح يهوديةً
علَّ يسمَعُهُ احدْ..
خمسون عاماً
تصرعني الاغنيات الباكيات بالنايات,
كعيون أُمي الدامعات عند الفراق لرؤيتي...
يصفعني نغم حزين على الكمان
والذكريات والحنين لإخوتي
آه , يا غربتي الثكلى ..
آهِ, يا اوتادَ خيمتي...
أنا كيف انا؟
أنا المهزومُ في داخلي
صوتأ تردَدْ,
كان صمتاً.. فتفجَّر.. وتفرّد
خذْ مالي كُلَّه وأعطني انتماء
أعطني وطني...
أعطني هويتي!!
آه ...
يا بلاداً أحببتُها قد لا تحبيني الان,
لكنك جنَّةُ مُقلتيَّ ...
يا بلاداً اثقلتْ فيَّ جراحاً ابدية
بعيدٌ عنك في بلادٍ غريبةٍ
مختبىءٌ
وربم اعاقْ,
لكنك فيَّ
تقزقزين لُبَّ أنفاسي وآهاتي
وتلعبين كما تشائينَ
في نبضات قلبي وساعديَّ
ستون عاماً مرَّت
و ما زالت حيرتي تزداد
كُلَّما ضاقتْ بي الدنيا
والفكرُ شردْ..
ستون عاماً,
وطأتُ خلالها ثرى كلِّ الكُرةِ
من جبالٍ و سهولٍ وصحارى
وروحي لا زالت تطوفُ حول ذرَّاتِ تُرابك
كمن صلَّى وعبَدْ..
ستون عاماً ,
وما زال الدربُ امامي
مبهماً يلفُّه الضبابُ,
و العذابُ والوهنْ....
تُرى؟!
أفلَنْ يَطِل الفجرُ يوماً
فأفترشُ فيه سُندسَ مرجِك
والتحفُ نعمةَ شمسِك
فأمحوا تعاستي وارتاحُ ,
حتى, ولو تحت ترابِك للأبد ؟؟
أم سأبقى هكذا , ما بين خريطة منفاي..
والحضارات الجديدة.. والحدود.. والبلد..
شبحٌ بالكادِ يُرى , كأنني لا أحد
رقمٌ في سجِّل اللاجئين
ويوماً ما
قد ينقُصْ العَدَدْ...!!!
Read more...